الاثنين، ٢٠ نوفمبر ٢٠٠٦

عـالم الأســرار ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


عــالم الأسرار

قصة محمود البدوى

فكرت ـ أثناء المشروعات الجديدة لبنــــــاء المســاكن ـ أن أبنى لنـفسى فيـلا " صغيرة فى ضـاحيـة مـصر الجديدة .

وكان لى زميل فى الدراسة برع فى المعمار .. وغدا من أشهر وأنبغ المهندسين فى المدينة ..

وكانت تستعين به معظم الشركات والبيوتات الكبرى ليتحايل بفنه على الحد المقرر لارتفاع المبانى حتى أصبح لايشق له غبار فى هذا المضمار ..

وذهبت إليه عصر يوم فى مكتبه بشارع الانتكخانة .. واستقبلنى مرحبا ولاحظت أنه لايستعمل يده اليمنى وهو يكتب أو يقرع الجرس أو يتحدث فى التليفون ..

ولم أسأله عن السبب .. ولكن عندما ترك مكتبه وجلس بجانبى لنشرب القهوة وحدثته عن الفيلا ..

قال :
ـ سأعطى الفكرة لمساعدى وهو الذى يعمل لك الرسم وأراقب أنا التنفيذ ..
ـ وأنت ..؟
ـ لقد خلعت ذراعى ..
فنظرت إليه جزعا

وقال وهو يشير إلى النافذة :
ـ خلعها هذا الرجل الذى هناك ..

ونظرت فلم أر شيئا فى الشارع
فسأل :
ـ ألم تره ..؟
ـ لا .. ليس أمامى سوى ضريح ..
ـ إنه هو ..
ونظرت متعجبا

ورأيت ضريحا صغيرا قد طلى بناؤه وشباكه الصغير وبابه بالدهان والزيت على أحسن صورة .. ووراءه عمارة حديثة عالية قد أخذ فى بياضها وزخرفتها من كل جانب ..

وكان الضريح يشغل الجانب الأيمن من العمارة .. وحوله فضاء على شكل دائرة .. وتراجعت العمارة عن الشارع بما يزيد على ثمانية أمتار .. اكراما للضريح .

وقد عجبت حقا من حدوث هذا فى القرن العشرين ، فالعمارة لولا هندسة صاحبى وبراعته تكاد تكون مشوهة بالجزء الذى اقتطع منها وترك حول الضريح .

وأخذت أقدر بالأمتار المساحة التى تنازل عنها صاحب العمارة طواعية منه إكراما للضريح فى هذه المنطقة الحيوية التى يباع فيها المتر بالمئات وتؤجر فيها الغرفة الواحدة بعشرة جنيهات .

وسألت صاحبى :
ـ هل صاحب العمارة هو الذى ترك مكان الضريح ..؟
فقال :
ـ لا .. لم يخطر لنا الضريح على بال عندما شرعنا فى البناء .. ولما جاءنى المقاول لنعاين المكان .. ونضع التصميم .. كان فى مكان هذه العمارة منزل من أربعة طوابق وهذا الضريح .
ولم نفكر فى الضريح اطلاقا .. وأزلناه ونحن نضع التصميم كلية .. وأعطيت الرسم للمقاول للتنفيذ .

ولكن الرجل جاءنى بعد عدة أيام وقال لى إن العمال حفروا الأساس فى قطعة الأرض كلها وأبقوا مكان الضريح .. فلم يجرؤ أحد على الاقتراب منه .

وكلمـا شـرعوا فى إزالتـه شلت أيديهم أو حدث لهم حادث ..

فسألت المقاول :
ـ هل تعرفون اسم صاحب الضريح ؟
ـ أبدا .. انه رجل مجهول ..
ـ هل نخضع للخرافات .. ونشوه العمارة .. ونحمل صاحبها خسارة الآلاف من الجنيهات من أجل ضريح لإنسان مجهول .. هذا تخريف .. يا معلم أحمد .. هذا الضريح يزال غدا ..

وتركت المقاول وأنا فى حالة من الغضب والعجب لبساطة هؤلاء العمال ..
ولكن المقاول لم يزل الضريح ..

لأن العمال الذين شرعوا فعلا فى إزالته سقط واحد منهم من فوق السقالة وكادت أن تدق عنقه وحلت مصيبة بعامل آخر ومرض الثالث فتشاءموا من هذه الحوادث وامتنعوا عن العمل كلية .

واتصل المقاول بصاحب العمارة فوافق على أن يبقى الضريح فى مكانه وأن نغير التصميم على هذا الأساس .

وزاد ذلك من سخطى ، فاتصلت بصاحب العمارة لأجعله يعدل عن رأيه هذا .. وقلت له إن بقاء الضريح فى مكانه سيشوه واجهة العمارة ويجعله يخسر آلافا مؤلفة من الجنيهات .. ولكن نستطيع أن نفعل شيئا يرضى عقيدته ويمنع الخسارة .. ذلك أن نبنى ضريحا جديدا لهذا الشيخ فى مكان آخر .. ووافق على رأيى هذا .. ووضعت للضريح الجديد تصميما رائعا يكلفنا أكثر من خمسة آلاف من الجنيهات .

ولكن عندما نمت فى تلك الليلة جاءنى رجل فى لباس أبيض وقال :
ـ سيب الضريح مكانه ..

وقد فسرت هذا الحلم بأنى كنت مشغولا قبل أن أنام بالضريح .. وكان مسيطرا على عقلى .. فلما نمت حلمت به .. كما يحلم الطالب فى ليلة الامتحان بالأسئلة والممتحنين ..

***

وشرعنا فى إزالة الضريح ولكن واحدا من العمال لم يقدر على أن يضرب الفأس فى الأرض أو فى سقفه أو فى حوائطه .. فشعرت بالغيظ وأوقفت الماكينات التى تحفر الأساس فى الجهة الأخرى ..

وجمعت العمال جميعا ورائى فى حلقة كبيرة .. وأمسكت بالفأس أمامهم لأريهم بأن الأمر أسهل مما يتصورون ويقدرون .. ولأزيل هذه الخرافات من عقولهم جميعا .

أمسكت بالفأس وضربت ضربة قوية فى الجدار .. فانخلع قالب واحد من الطوب .. ولكن انخلع معه ذراعى وأحسست بمثل النار تسرى فى كتفى اليمنى .. وبسواد شديد يزحف أمامى حتى أظلم المكان ..

ولم أقو على حمل الفأس فألقيتها وأنا أتصبب عرقا .. ونظر إلىّ العمال فى ذهول .. ثم صاح أحدهم :
ـ شهدنا لك يا سيدنا الشيخ ..
وصفقوا وهللوا .. وتركتهم مخذولا ..

أخذت أفكر فى هذا العالم الآخر عالم الأسرار .. وتذكرت الحلم والشيخ الذى جاءنى فى المنام .. وكل ما دار فى رأس العمال من مخاوف بسبب الضريح .. وقلت .. إن هذا عالم آخر .. يعلو عن فهمنا وادراكنا .. وأسراره لاتحيط بها عقولنــا .. إنه عالم الأسرار لاندرك منه شيئا .. عالم الأسرار ..

وأبقينا على الضريح كما ترى فى مكانه .. بل بنيناه بالحجر والجرانيت من جديد .. وزيناه ووضعنا فى سقفه القناديل .. وانه الآن مصباح العمارة ونورها ..

وقد أخذ ذراعى فى التحسن فأنا الآن أستطيع تحريكه واعتقد أنه سيشفى تماما ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية 1211955 وأعيد نشرها بمجموعة الجمال الحزين 1962 لمحمود البدوى
=================================

هناك تعليق واحد:

mido_mashakel911 يقول...

اود عمل فيلم تسجيلي قصير حول احدى قصص الاديب محمود بدوي وارجوا التواصل لاحتياجي الى بعض المعلومات حول القصه
محمد مصطفى حسن
0114529944
0125249944
0185889944