الأحد، ٢٦ نوفمبر ٢٠٠٦

رجل فى القطار ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى





من عالم الأسرار

رجل فى القطار

قصة محمود البدوى

كانت الليلة شديدة البرودة .. والريح تنذر بالعواصف .. وكان كازينو " فينوس " قد أغلق نوافذه وأبوابه وترك فقط الباب الصغير الموصل للطريق مفتوحا .. وكان هذا بابا عتيقا فأخذت الريح تهزه .. وانطلق كلما دفعته الريح يدور على مفصلاته ويحدث صريرا مزعجا ..

وجلس من وراء الباب بعض رواد الكازينو الدائمين متناثرين حول الموائد ولائذين بالأركان فبينهم من كان يشرب ويتعشى ويثرثر .. وبينهم من كان يحتسى الخمر فى صمت كئيب ..

وكان الضوء شاحبا وقليلا فى الخارج والداخل .. وأنفاس الدخان الحارة تذوب فى الهواء البارد .

وكان الجو كله يوحى بالكآبة والوحشة ورهبة الصمت وفى حوالى الساعة التاسعة من المساء .. دخلت من الباب الصغير امرأة شابة .. ترتدى معطفا سنجابيا .. ويبدو على وجهها الهزال والتعب ..

وكانت جميلة حلوة التقاطيع متناسقة القوام ولكنها غطت هذا القوام البديع .. وبدت محتشمة فى ملابسها .. ولاتبرز شيئا من مفاتن جسدها .. وكانت وهى تتحرك بين الموائد مضطربة وفى أشد حالات الخجل .. وكأنها تبحث بعينيها عن شخص ينقذها من دخولها وحدها إلى مثل هذا المكان ..

ثم جلست وحيدة .. منكمشة فى ركن قصى .. وما لبثت أن عـاودها الشرود فذهلـت عن نفسها .. ثم استـفاقـت على صـوت " الجرسون " يسألها عما تطلب ..

فحدقت فيه برهة .. وهى أشد ما تكون اضطرابا .. كانت جائعة جدا وتود أن تطلب شيئا تسد به رمقها .. ولكنها تخشى أن يكون ثمن الطعام أكثر من القروش الخمسة التى فى حقيبتها .. فنظرت إلى الجرسون فى حيرة .. كانت تشتهى طبقا من المكرونة أو شطيرة صغيرة بالجبن .. وخجلت من أن تسأله عن ثمنها .. وأخيرا طلبت فنجالا من الشاى .. وهى تنظر إلى وجه الرجل فى استكانة وكأنها ترجوه أن يبتعد عنها ويرحمها إذ أنها فى الواقع لم تكن ترغب فى أن تطلب أى شىء على الاطلاق ..

وبعد أن تركها " الجرسون " ومضى إلى داخل المحل .. جمعت سعاد أشتات نفسها المضطربة وأخذت تحدق بوعى فى المكان ..

ولاحظت رجلا متوسط العمر .. يسدد إليها النظر بقوة .. فاضطربت جدا ولكن انتباه الرجل إليها سرها فى الحقيقة .. وتذكرت أنها رأت هذا الوجه من قبل وهى نازلة من الترام ..

وسرت لأنه تبعها فقد كانت فى الواقع تبحث عن شخص تلجأ إليه فى محنتها وفرحت لهذا الغرض .. وكانت قد جاءت إلى هذا الكازينو من قبل مرة واحدة مع صديقة لها .. وعرفت منها أن تحت رواقه يلتقى الرجال بالنساء .. ومن الرجال من يدفع بسخاء طيب فى سبيل ملذاته ..

وعندما سمعت سعاد هذه الكلمات لأول مرة امتعضت وخرجت تجر صاحبتها من الكازينو بسرعة وابتعدت عنه .. كانت رغم فقرها الشديد تخشى أن تتردى فى هذا الوحل أو يصل بها الحال إلى هذا الحضيض .. ولكن الكلمات ظلت مع ذلك فى أذنيها ..

فلما مرضت أختها زكية مرضا أشرف بها على الموت .. وعجزت عن أن تشترى لها حتى زجاجة صغيرة من الدواء خرجت إلى الطريق كالمجنونة وعادت إلى رأسها صورة الكازينو .. والكلمات التى سمعتها من قبل .. فاتجهت إليه مغمضة العينين ..

وكانت سعاد تشتغل من قبل فى منسج ثم طردت منه .. منذ أربعة أشهر دون سبب ظاهر .. ولم تستطع أن توفق إلى أى عمل وتستمر فى أدائه بعد ذلك .. فقد كان جمالها هو سبب نكبتها فى الحقيقة .. فقد طردت من قبل من مصنع العلب الكرتون .. ومن معمل للحلوى لنفس السبب .. كان كل من تعمل عنده ويدفع لها الأجر يود أن يخضعها لنزواته ويفترسها أولا كما يفترس الذئب الشاة .. فكانت تفزع من هذا .. وطارت على وجهها مذعورة وظلت محتفظة بصفائها .. ولكن الجوع حطمها .. ومرض أختها الطويل هز كيانها .. وكانت أصغر منها وهى عائلتها الوحيدة ..

فخرجت من البيت فى ليلة شديدة البرودة مظلمة .. وفى رأسها أن تفعل كل شىء ..

وعندما رأت هذا الرجل يلاحظها بنظراته سرت .. فقد كان هذا هو ما تطلبه وتسعى إليه .. وبعد أن حدق الرجل فى وجهها قليلا .. ولاحظ البسمة الخفيفة التى مرت على شفتيها والومضة التى فى عينيها .. اتخذ مجلسه فى مائدة ملاصقة لمائدتها ولكنه لم يحدثها بادىء ذى بدء بل ظل ينظر إليها طويلا ..

ثم التفت إليها وأخذ يحادثها ولاحظ بعد تبادل بضع كلمات معها أنها أشد اضطرابا مما كان يتوقع .. ومع ذلك صبـر على خجلها وظل يتبسط معها فى الحديث برقة وايناس ..

وكان " الجرسون " قد جاء فى تلك الآونة يحمل الشاى .. فطلب الرجل منه فى الحال عشاء دسما وكأسين من الخمر .. ولكن سعاد رفضت أن تشرب فشرب الرجل الكأسين .. وطلب الكأس الثالثة والرابعة وظل يشرب ..

وتعشت سعاد وملأت جوفها .. وظلت طول فترة العشاء تتفرس فى وجه الرجل .. تستوضح ملامحه .. كان مستطيل الوجه .. فى حوالى الخامسة والثلاثين من عمره ذا شارب صغير وعينين صغيرتين ولكنهما نفاذتان وكان صوته ناعما ملفوفا .. وفيه براعة ورقة من اعتاد التحدث مع النساء والتودد لهن ..

ومع أنه كان جذاب الملامح وحلو الحديث ولكن سعاد أحست بعد أن شبعت وملأت بطنها بشاعة ما هى مقبلة عليه .. وفكرت فى أن تترك الرجل .. وتخرج ..

ولكن كيف تتخلص منه بعد أن أطعمها من جوع .. وكيف تنسى أختها المريضة فى البيت .. ورجعت بفكرها إلى البيت وتصورت أختها وهى تموت دون علاج وظلت فى عذاب شديد .. وجعلتها سذاجتها تفكر فى أن تطلب من الرجل جنيها .. وتتركه على الباب ..

ولكن الرجل قطع عليها حبل التفكير فى الحال بأن خرج بها من الكازينو وركب معها سيارة أجرة من قلب المدينة إلى محطة كوبرى الليمون وعرفها فى الطريق أنه يقيم فى ضاحية عين شمس وكانت قد ذهبت إلى هذه الضاحية مرة واحدة منذ خمس سنوات فى زيارة سريعة وعابرة .. وأعجبت بها وراقها هدوءها ودفؤها فى الشتاء ..

وقد انشرح صدرها لأن الرجل يقيم هناك وستدخل بيته فى سكون بعيدا عن الأنظار وعن فضول الناس ..

وعندما جلست بجواره فى عربة القطار المكشوفة ذات المقاعد الجلدية مع جموع الركاب .. شعرت بالاطمئنان ولكن عندما بدأ الناس ينزلون من العربة ويتركونها فى مختلف المحطات .. أحست بالخوف ..

وكانت تصعد بصرها فى وجه الرجل وتراه يبتسم إليها فى وداعة فعادت تطمئن إليه ..

وقد نسيت فى رحلة القطار ودخانه ووجود الركاب معها .. ما هى مقدمة عليه .. فلما خف الركاب أحست بأنفاس الرجل بجوارها وبالخشب .. والمقاعد الفارغة .. خافت .. وارتعشت من مجرد التفكير فيما هى ذاهبة إليه ..

***

وقبل أن يقف القطار على محطة الزيتون ظهر فى ممر العربة .. رجل طويل القامة عظيم الهامة .. يرتدى معطفا من الصوف الثقيل ويضع على رأسه عمامة بيضاء .. وكانت ذقنه طويلة سوداء لامعة تتخللها شعيرات بيضاء .. وعيناه شديدتا البريق .. وحرك دفترا صغيرا فى يده ..

وأخذ يخطب فى الركاب بصوت جهورى ويحثهم على التبرع لبناء مسجد .. فى جهة الزيتون ..

وكان يتحدث ببلاغة مذهلة وتتدفق الكلمات من فمه كالسيل .. وأثرت الكلمات فى الموجودين جميعا فانهالت عليه التبرعات .. ومنهم من دفع ورقة بخمسة قروش وبعشرة قروش .. وخمسة وعشرين قرشا .. وبلغ التأثر من راكب بأن أخرج جنيها صحيحا وسلمه للخطيب وعيناه تفيضان بالدمع ..

وكان يفك للذين ليس معهم فكة .. ولا يترك راكبا دون أن يدفع ويتبرع ..

وبعد أن انتهى من ركاب العربة .. دفع النقود فى جيب معطفه .. ولاحظت سعاد مع كونه لم يترك راكبا فى العربة إلا وأخذ منه التبرع ولكنه ترك الرجل الذى معها عن عمد .. ولم يوجه إليه أى كلام .. ولكنه كان يلاحظها هى بنظراته القوية حتى شعرت بالخجل من نظراته وكأنه عرف لماذا تركب القطار فى صحبة هذا الرجل فاستحيت وانكمشت ..

وترك الرجل الضخم ذو العمامة هذه العربة .. ونفذ إلى العربة الأخرى ولكنه عاد .. بعد بضع دقائق .. إلى نفس العربة ومر بجوار سعاد بجسمه الضخم وقامته الفارعة .. وذقنه الطويلة ووجد مقعدا خاليا قريبا منها .. وفى الناحية الملاصقة للشباك .. فجلس عليه مسترخيا .. وقد بدا عليه التعب من الجهد الذى بذله .. ورأته بعد قليل يغمض عينيه وجعلته هزات القطار الرتيبة ينام فعلا ..

***

وكان الرجل الذى يرافق سعاد قد تعب من الخمر .. فمال برأسه على صدره .. فانتهزت سعاد هذه الفرصة وأخذت تلاحظ الرجل الآخر جامع التبرعات وقد أعجبها شكله وهندامه وقوة البريق الذى فى عينيه ورأت ورقة مالية تطل من جيب معطفة .. فاضطرب قلبها ..

وطاف برأسها خاطر سريع .. دفعته عنها بقوة ولكنه عاد يسيطر عليها ووجدت نفسها تنهض من مقعدها بخفة وتتجه إلى دورة المياه ..

ومرت بجوار الرجل عن قرب وتحققت من نومه .. ورأت الورقة المالية .. متدلية بأطرافها .. فزاد اضطرابها .. ومشت حابسة صوت أقدامها .. وهى تحدق فى كل ما حولها .. فوجدت المكان خاليا .. وهناك ثلاثة ركاب فى الناحية الأخرى من العربة .. ولا أحد بجوار الرجل النائم ..

وذهبت إلى دورة المياه سريعا ثم عادت فوجدت الرجل الضخم جامع التبرعات نائما وحده على مقعده والورقة لاتزال تطل من جيب معطفه ..

وأحست بالرهبة وبلسعة شديدة فى أطراف أناملها وهى تمد يدها سريعا وتتناول الورقة المالية وطوتها فى لمح البصر فى صدرها ..
وكانت ورقة بجنيه كامل ..

وظلت فى مكانها شاردة إلى أن أحست بالقطار يهدىء من سرعته ويقف على محطة المطرية فاندفعت بسرعة من الباب .. ونزلت من القطار إلى المحطة ..

وبعد دقيقتين ركبت القطار المضاد الذاهب إلى القاهرة ..

***

وقبل أن ينتهى الإسبوع .. سمعت سعاد من جيرانها فى البيت الحديث عن رجل سفاح نشرت صورته فى جريدة الصباح يتصيد النساء الوحيدات من الأمكنة العامة ودور السينما ويذهب بهن إلى بيته فى ضاحية عين شمس .. وبعد أن ينال منهن وطره .. يقتلهن ويدفنهن فى الرمال ..

وانتفضت سعاد لما سمعت .. عين شمس .. وتطلعت إلى صورة الرجل فى الجريدة .. ولما رأتها صرخت .. انه نفس الرجل الذى صحبها .. وهربت منه فى تلك الليلة ..

***

وتزوجت سعاد .. وسكنت فى خط المرج .. وكانت فى كل مرة تركب فيها القطار .. تتمنى أن تلتقى بالرجل الضخم الذى أخذت من جيبه الجنيه .. والذى أنقذها من الموت والعار .. لترد له ما أخذته وتشكره من قلب بتول .. ولكنها لم تلتق به بعد ذلك أبدا .. وصور لها خيالها وسذاجتها أن الرجل لم يكن بشرا وانما هو ملاك هبط عليها فى تلك اللحظة من السماء ..
=================================
نشرت فى صحيفة المساء بالعدد 1551 بتاريخ 2011961 وأعيد نشرها بمجموعة " عذراء ووحش " عام 1963
=================================

ليست هناك تعليقات: